الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا} قوله تعالى{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين{ أي بالجنة لمن آمن {ومنذرين{ أي مخوفين بالعذاب من الكفر. وقد تقدم {ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق{ قيل: نزلت في المقتسمين كانوا يجادلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: ساحر ومجنون وشاعر وكاهن كما تقدم. ومعنى {يدحضوا{ يزيلوا ويبطلوا وأصل الدحض الزلق يقال: دحضت رجله أي زلقت، تدحض دحضا ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت ودحضت حجته دحوضا بطلت، وأدحضها الله والإدحاض الإزلاق. وفي وصف الصراط: {واتخذوا آياتي{ يعني القرآن {وما أنذروا{ و{ما{ بمعنى المصدر أي والإنذار وقيل: بمعنى الذي؛ أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا؛ {هزوا{ أي اتخذوا القرآن والذي أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا؛ وقد تقدم في {البقرة{ بيانه. وقيل: هو قول أبي جهل في الزبد والتمر هذا هو الزقوم وقيل: هو قولهم في القرآن هو سحر وأضغاث أحلام وأساطير الأولين، وقالوا للرسول {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا} قوله تعالى{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها{ أي لا أحد أظلم لنفسه ممن، وعظ بآيات ربه، فتهاون بها وأعرض عن قبولها. {ونسي ما قدمت يداه{ أي ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها، فالنسيان هنا بمعنى الترك قيل: المعنى نسي ما قدم لنقسه وحصل من العذاب؛ والمعنى متقارب. {إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا{ بسبب كفرهم؛ أي نحن منعنا الإيمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم. {وإن تدعهم إلى الهدى{ أي إلى الإيمان. {فلن يهتدوا إذا أبدا{ نزل في قوم معينين، وهو يرد على القدرية قولهم؛ وقد تقدم معنى هذه الآية في {وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا} قوله تعالى{وربك الغفور ذو الرحمة{ أي للذنوب. وهذا يختص به أهل الإيمان دون الكفرة بدليل قوله وقال الأعشى: أي ما ينجو. ">الآية رقم ( 59 )">
الآية رقم ( {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا} قوله تعالى{وتلك القرى أهلكناهم{ {تلك{ في موضع رفع بالابتداء. {القرى{ نعت أو بدل. و{أهلكناهم{ في موضع الخبر محمول على المعنى؛ لأن المعنى أهل القرى. ويجوز أن تكون {تلك{ في موضع نصب على قول من قال: زيدا ضربته؛ أي وتلك القرى التي قصصنا عليك نبأهم، نحو قرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط أهلكناهم لما ظلموا وكفروا. {وجعلنا لمهلكهم موعدا{ أي وقتا معلوما لم تعده و{مهلك{ من أهلكوا. وقرأ عاصم {مهلكهم{ بفتح الميم واللام وهو مصدر هلك. وأجاز الكسائي والفراء {لمهلكهم{ بكسر اللام وفتح الميم. النحاس: قال الكسائي وهو أحب إلي لأنه من هلك. الزجاج: اسم للزمان والتقدير: لوقت مهلكهم، كما يقال: أتت الناقة على مضربها. ">الآية رقم ( 60 )">
الآية رقم ( {وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا} قوله تعالى{وإذ قال موسى لفتاه{ الجمهور من العلماء وأهل التاريخ أنه موسى بن عمران المذكور في القرآن ليس فيه موسى غيره. وقالت فرقة منها نوف البكالي: إنه ليس ابن عمران وإنما هو موسى بن منشا بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى بن عمران. وقد رد هذا القول ابن عباس في صحيح البخاري وغيره. وفتاه: هو يوشع بن نون. وقد مضى ذكره في {المائدة{ وآخر {يوسف{. ومن قال هو ابن منشا فليس الفتى يوشع بن نون. {لا أبرح{ أي لا أزال أسير؛ قال الشاعر: وقيل{لا أبرح{ لا أفارقك. {حتى أبلغ مجمع البحرين{ أي ملتقاهما. قال قتادة: وهو بحر فارس والروم؛ وقال مجاهد. قال ابن عطية: وهو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان، فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجمع البحرين على هذا القول. وقيل: هما بحر الأردن وبحر القلزم. وقيل: مجمع البحرين عند طنجة؛ قال محمد بن كعب. وروي عن أبي بن كعب أنه بأفريقية. وقال السدي: الكر والرس بأرمينية. وقال بعض أهل العلم: هو بحر الأندلس من البحر المحيط؛ حكاه النقاش؛ وهذا مما يذكر كثيرا. وقالت فرقة: إنما هما موسى والخضر؛ وهذا قول ضعيف؛ وحكي عن ابن عباس، ولا يصح؛ فإن الأمر بين من الأحاديث أنه إنما وسم له بحر ماء. في هذا من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم، وذلك كان في دأب السلف الصالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح، وحصلوا على السعي الناجح، فرسخت لهم في العلوم أقدام، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام قال. البخاري: ورحل جابر بن عبدالله مسيرة شهر إلى عبدالله بن أنيس في حديث. قوله تعالى{وإذ قال موسى لفتاة{ للعلماء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان معه يخدمه، والفتى في كلام العرب الشاب، ولما كان الخدمة أكثر ما يكونون فتيانا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك في ">الآية رقم ( 61 )">
الآية رقم ( {فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا} الضمير في قوله{بينهما{ للبحرين؛ قال مجاهد. والسرب المسلك؛ قال مجاهد. وقال قتادة: جمد الماء فصار كالسراب. وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغا، وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر. وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر وقوله{نسيا حوتهما{ وإنما كان النسيان من الفتى وحده فقيل: المعنى؛ نسي أن يعلم موسى بما رأى من حال فنسب النسيان إليهما للصحبة، كقوله تعالى ">الآية رقم ( 62 )">
الآية رقم ( {فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا} قوله تعالى{فلما جاوزا{ يعني الحوت هناك منسياً - أي متروكاً - فلما سأل موسى الغداء نسب الفتى النسيان إلى نفسه عند المخاطبة، وإنما ذكر الله نسيانهما عند بلوغ مجمع البحرين. وهو الصخرة، فقد كان موسى شريكا في النسيان لأن النسيان التأخير؛ من ذلك قولهم في الدعاء: أنسأ الله في أجلك. فلما مضيا من الصخرة أخرا حوتهما عن حمله فلم يحمله واحد منهما فجاز أن ينسب إليهما لأنهما مضيا وتركا الحوت. قوله تعالى{آتنا غداءنا{ فيه مسألة واحدة، وهو اتخاذ الزاد في الأسفار، وهو رد على الصوفية الجهلة الأغمار، الذين يقتحمون المهامه والقفار، زعما منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار؛ هذا موسى نبي الله وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد. ">الآية رقم ( 63 )">
الآية رقم ( {قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا} قوله تعالى{وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره{ أن مع الفعل بتأويل المصدر، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في {أنسانيه{ وهو بدل الظاهر من المضمر، أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان؛ وفي مصحف عبدالله {وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان{. وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار لقول موسى: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت؛ فقال: ما كلفت كثيرا، فاعتذر بذلك القول. قوله تعالى{واتخذ سبيله في البحر عجبا{ يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى؛ أي اتخذ الحوت سبيله عجبا للناس ويحتمل أن يكون قوله{واتخذ سبيله في البحر{ تمام الخبر، ثم استأنف التعجيب فقال من نفسه{عجبا{ لهذا الأمر. وموضع العجب أن يكون حوت قد مات فأكل شقه الأيسر ثم حي بعد ذلك. قال أبو شجاع في كتاب الطبري: رأيته - أتيت به - فإذا هو شق حوت وعين واحدة، وشق آخر ليس فيه شيء قال ابن عطية: وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شيء عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكه. ويحتمل أن يكون قوله{واتخذ سبيله{ إخبارا من الله تعالى، وذلك على وجهين: إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجبا، أي تعجب منه وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبا للناس. ومن غريب ما ">الآية رقم ( 64 )">
الآية رقم ( {قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا} قوله تعالى{قال ذلك ما كنا نبغ{ أي قال موسى لفتاه أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب، فإن الرجل الذي جئنا له ثمَّ؛ فرجعا يقصان أثارهما لئلا يخطئا طريقهما. ">الآية رقم ( 65 )">
الآية رقم ( {فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما} قوله تعالى{فوجدا عبدا من عبادنا{ العبد هو الخضر عليه السلام في قول الجمهور، وبمقتضى الأحاديث الثابتة وخالف من لا يعتد بقوله، فقال: ليس صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر وحكى أيضا هذا القول القشيري، قال: وقال قوم هو عبد صالح، والصحيح أنه كان الخضر؛ بذلك ورد الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، قوله تعالى{آتيناه رحمة من عندنا{ الرحمة في هذه الآية النبوة وقيل: النعمة. {وعلمناه من لدنا علما{ أي علم الغيب، ابن عطية: كان علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه، لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها؛ وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم. ">الآية رقم ( 66 : 68 )">
الآية رقم ( {قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا، قال إنك لن تستطيع معي صبرا، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا} {قال له موسى هل أتبعك{ هذا سؤال الملاطف، والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب، المعنى: هل يتفق لك ويخف عليك؟ وهذا كما في الحديث: في هذه الآية دليل أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر يدل على أن الخضر كان أفضل منه، فقد يشذ عن الفاضل ما يعلمه المفضول، والفضل لمن فضله الله؛ فالخضر إن كان وليا فموسى أفضل منه، لأنه نبي والنبي أفضل من الولي، وإن كان نبيا فموسى فضله بالرسالة. والله أعلم. {ورشدا{ مفعول ثان بـ {تعلمني{. {قال{ الخضر. {إنك لن تستطيع معي صبرا{ أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب، وهو معنى قوله{وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا{ والأنبياء لا يقرون على منكر، لا يجوز لهم التقرير أي لا يسعك السكوت جريا على عادتك وحكمك. وانتصب {خبرا{ على التمييز المنقول عن الفاعل. وقيل: على المصدر الملاقى في المعنى، لأن قوله{لم تحط{. معناه لم تخبره، فكأنه قال: لم تخبره خبرا؛ وإليه أشار مجاهد والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وبما يختبر منها. ">الآية رقم ( 69 )">
الآية رقم ( {قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا} قوله تعالى{قال ستجدني إن شاء الله صابرا{ أي سأصبر بمشيئة الله. {ولا أعصي لك أمرا{ أي قد ألزمت نفسي طاعتك وقد اختلف في الاستثناء، هل هو يشمل قوله{ولا أعصي لك أمرا{ أم لا؟ فقيل: يشمله كقوله ">الآية رقم ( 70 )">
الآية رقم ( {قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا} أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضي دوام الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر من الاعتراض فتعين الفراق والإعراض. ">الآية رقم ( 71 : 73 )">
الآية رقم ( {فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا، قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا} قوله تعالى{فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها{ في خرق السفينة دليل أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، مثل أن يخاف على ريعه ظالما فيخرّب بعضه وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض وقرأ حمزة والكسائي {ليغرق{ بالياء {أهلها{ بالرفع فاعل يغرق، فاللام على قراءة الجماعة في {لتغرق{ لام المآل مثل {ليكون لهم عدو وحزنا{. وعلى قراءة حمزة لام كي، ولم يقل لتغرقني؛ لأن الذي غلب الحال فرط الشفقة عليهم، ومراعاة حقهم. و{إمرا{ معناه عجبا؛ قاله القتبي، وقيل: منكرا؛ قاله مجاهد، وقال أبو عبيدة: الإمر الداهية العظيمة؛ وأنشد وقال الأخفش: يقال أمر يأمر {أمر{ إذا أشتد والاسم الإمر. قوله تعالى{قال{ الخضر. {ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا{ أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب. في معناه قولان: أحدهما: يروى ابن عباس، قال:(هذا من معاريض الكلام). والآخر: أنه نسي فاعتذر؛ ففيه ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره؛ وقد تقدم، ولو نسي في الثانية لاعتذر. {فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا} قلت: ولا اختلاف بين هذه الأحوال الثلاثة، فإنه أن يكون دمغه أولا بالحجر، ثم أضجعه فذبحه، ثم اقتلع رأسه؛ والله أعلم بما كان من ذلك وحسبك بما جاء في الصحيح. وقرأ الجمهور {زاكية{ بالألف وقرأ الكوفيون وابن عامر {زكية{ بغير ألف وتشديد الياء؛ قيل المعنى واحد؛ قال الكسائي وقال ثعلب: الزكية أبلغ قال أبو عمرو: الزاكية التي لم تذنب قط، والزكية التي أذنبت ثم تابت. قوله تعالى{غلاما{ اختلف العلماء في الغلام هل كان بالغا أم لا؟ فقال الكلبي: كان بالغا يقطع الطريق بين قريتين، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين، وأمه من عظماء القرية الأخرى، فأخذه الخضر فصرعه، ونزع رأسه عن جسده. قال الكلبي: واسم الغلام شمعون وقال الضحاك: حيسون وقال وهب: اسم أبيه سلاس واسم أمه رحمى وحكى السهيلي أن اسم أبيه كازير واسم أمه سهوى وقال الجمهور: لم يكن بالغا؛ ولذلك قال موسى زاكية لم تذنب، وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام؛ فان الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ، وتقابله الجارية في النساء وكان الخضر قتله لما علم من سيره، وأنه طبع كافرا كما في، صحيح الحديث، وأنه لو أدرك لأرهق أبويه كفرا، وقتل الصغير غير مستحيل إذا أذن الله في ذلك؛ فان الله تعالى الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء، وفي كتاب العرائس: إن موسى لما قال للخضر {أقتلت نفسا زكية...{ الآية - غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر، وقشر اللحم عنه، وإذا في عظم كتفه مكتوب: كافر لا يؤمن بالله أبدا. وقد احتج أهل القول الأول بأن العرب تبقي على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية: وقال صفوان لحسان: وفي الخبر: إن هذا الغلام كان يفسد في الأرض، ويقسم لأبويه أنه ما فعل، فيقسمان على قسمه، ويحميانه ممن يطلبه، قالوا وقوله{بغير نفس{ يقتضي أنه لو كان عن قتل نفس لم يكن به بأس، وهذا يدل على كبر الغلام، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس، وإنما جاز قتله لأنه كان بالغا عاصيا. قال ابن عباس: كان شابا يقطع الطريق، وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سن التكليف لقراءة أبي وابن عباس {وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين{ والكفر والإيمان من صفات المكلفين، ولا يطلق على غير مكلف إلا بحكم التبعية لأبويه، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنص فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ، فتعين أن يصار إليه والغلام من الاغتلام وهو شدة الشبق. قوله تعالى{نكرا{ اختلف الناس أيهما أبلغ {إمرا{ أو قوله {نكرا{ فقالت فرقة: هذا قتل بين، وهناك مترقب؛ فـ {نكرا{ أبلغ، وقالت فرقة: هذا قتل واحد وذاك قتل جماعة فـ {إمرا{ أبلغ. قال ابن عطية: وعندي أنهما لمعنيين وقوله{إمرا{ أفظع وأهول من حيث هو متوقع عظيم، و{نكرا{ بين في الفساد لأن مكروهه قد وقع؛ وهذا بين. {قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا، قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا} قوله تعالى{قال{ الخضر. {ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا{ أي إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي علمك لا تعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ ولم تخبر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب. قوله تعالى{قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني{ شرط وهو لازم، والمسلمون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به ما التزمه الأنبياء، والتزم للأنبياء. {فلا تصاحبني{ كذا قرأ الجمهور؛ أي تتابعني. وقرأ الأعرج {تصحبني{ بفتح التاء والباء وتشديد النون وقرئ {تصحبني{ أي تتبعني وقرأ يعقوب {تصحبني{ بضم التاء وكسر الحاء؛ ورواها سهل عن أبي عمرو؛ قال الكسائي: معناه فلا تتركني أصحبك. قوله تعالى{قد بلغت من لدني عذرا{ يدل على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقا، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع؛ قاله ابن العربي. ابن عطية: ويشبه أن تكون هذه القصة أيضا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة، وأيام المتلوم ثلاثة؛ فتأمله. {قد بلغت من لدن عذرا{ أي بلغت مبلغا تعذر به في ترك مصاحبتي، وقرأ الجمهور{من لدني{ بضم الدال، إلا أن نافعا وعاصما خففا النون {لدن{ اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي وفرسي، وكسر ما قبل الياء كما كسر في هذه. وقرأ أبو بكر عن عاصم {لَدْني{ بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون وروي عن عاصم {لدني{ بضم اللام وسكون الدال؛ قال ابن مجاهد: وهي غلط؛ قال أبو علي: هذا التغليط يشبه أن يكون من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فهي صحيحة وقرأ الجمهور {عذر{ وقرأ عيسى {عذرا{ بضم الذال وحكى الداني أن أبيا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم {عذري{ بكسر الراء وياء بعدها. {فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا} قوله تعالى{فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما{ كان موسى عليه السلام حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر؛ ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء، وفي القرية سألا القوات؛ وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة؛ منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة الخضر تبعا لغيره. قلت: وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أول الآية لفتاه {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا{ فأصابه الجوع مراعاة لصاحبه يوشع؛ والله أعلم. وقيل: لما كان هذا سفر تأديب وكل إلى تكلف المشقة، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت. في هذه الآية دليل على سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد جوعه خلافا لجهال المتصوفة والاستطعام سؤال الطعام، والمراد به هنا سؤال الضيافة. بدليل قوله{فأبوا أن يضيفوهما{ فاستحق أهل القرية لذلك أن يذموا، وينسبوا إلى اللؤم والبخل، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام قال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه. ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة، وهذا هو الأليق بحال الأنبياء، ومنصب الفضلاء والأولياء وقد تقدم القول في الضيافة في {هود{ والحمد لله. ويعفو الله عن الحريري حيث استخف في هذه الآية وتمجن، وأتى بخطل من القول وزل؛ فاستدل بها على الكدية والإلحاح فيها، وأن ذلك ليس بمعيب على فاعله، ولا منقصة عليه؛ فقال: قلت: وهذا لعب بالدين، وانسلال عن احترام النبيين، وهي شنشنة أدبية، وهفوة سخافية؛ ويرحم الله السلف الصالح، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، فقالوا: مهما كنت لاعبا بشيء فإياك أن تلعب بدينك. قوله تعالى{فوجدا فيها جدارا{ الجدار والجدر بمعنى واحد؛ قوله تعالى{يريد أن ينقض{ أي قرب أن يسقط، وهذا مجاز وتوسع وقد فسره في الحديث بقوله: (مائل) فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور. وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة، أي لو كان مكانهما إنسان لكان متمثلا لذلك الفعل، هذا كلام العرب وأشعارها كثير؛ فمن ذلك قول الأعشى: فأضاف النهي إلى الطعن. ومن ذلك قول الآخر: وقال آخر: وقال آخر: أي ثبوتا في الأرض؛ من قولهم: نصل السيف إذا ثبت في الرمية؛ فشبه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفؤوس في الأرض فإن الفأس يقع فيها ويثبت لا يكاد يخرج. وقال حسان بن ثابت: وقال عنترة: وقد فسر هذا المعنى بقوله: وهذا في هذا المعنى كثير جدا ومنه قول الناس: إن داري تنظر إلى دار فلان ومما احتجوا به أن قالوا: لو خاطبنا الله تعالى بالمجاز لزم وصفه بأنه متجوز أيضا، فإن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة، وهو على الله تعالى محال؛ قال الله تعالى وأما في الدنيا؛ قوله تعالى{فأقامه{ قيل: هدمه ثم قعد يبنيه. {قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا{ فقال موسى للخضر{قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا{ لأنه فعل يستحق أجرا، وذكر أبو بكر الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه{ قال أبو بكر: وهذا الحديث إن صح سنده فهو جار من الرسول عليه الصلاة والسلام مجرى التفسير للقرآن، وأن بعض الناقلين أدخل تفسير قرآن في موضع فسرى أن ذلك قرآن نقص من مصحف عثمان؛ على ما قاله بعض الطاعنين، وقال سعيد بن جبير: مسحه بيده وأقامه فقام، وهذا القول هو الصحيح، وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل والأولياء، وفي بعض الأخبار: إن سمك ذلك الحائط كان ثلاثين ذراعا بذراع ذلك القرن، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعا، فأقامه الخضر عليه السلام أي سواه بيده فاستقام؛ قال الثعلبي في كتاب العرايس: فقال موسى للخضر {لو شئت لاتخذت عليه أجرا{ أي طعاما تأكله؛ ففي هذا دليل على كرامات الأولياء، وكذلك ما وصف من أحوال الخضر عليه السلام في هذا الباب كلها أمور خارقة للعادة؛ هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي. وقوله تعالى واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحث جدار مائل يخاف سقوطه، بل يسرع في المشي إذا كان مارا عليه؛ لأن في يقال منه: وكَنَ يكِنُ إذا جلس، وفي الصحاح: الطربال القطعة العالية من الجدار، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل، وطرابيل الشام صوامعها. ويقال: طربل بوله إذا مده إلى فوق. كرامات الأولياء ثابتة، على ما دلت عليه الأخبار الثابتة، والآيات المتواترة، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد، أو الفاسق الحائد؛ فالآيات ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء - على ما تقدم - وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية؛ على الخلاف ويدل عليها ما ظهر على يد الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. قال بعض العلماء: ولا يجوز أن يقال كان نبيا؛ لأن إثبات النبوة لا يجوز بأخبار الآحاد، لا سيما وقد روي من طريق التواتر - من غير أن يحتمل تأويلا - بإجماع الأمة قلت: الخضر كان نبيا على ما تقدم وليس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، أي يدعي النبوة بعده أبدا الله أعلم 0 والفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار، والمعجزة من شرطها الإظهار. وقيل: الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك. وقد تقدم في مقدمة الكتاب شرائط المعجزة، والحمد لله تعالى وحده لا شريك له. وأما الأحاديث الواردة في الدلالة على ثبوت الكرامات، فمن ذلك وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع فقتله بنو الحرث، وكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا؛ فاستجاب الله تعالى لعاصم يوم أصيب؛ فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه خبرهم وما أصيبوا. وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرفونه، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر؛ فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا. وقال ابن إسحاق في هذه القصة: وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد، وقد كانت نذرت حين أصاب ابنيها بأحد لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر فمنعهم الدبر، فلما حالت بينه وبينهم قالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه، فبعث الله تعالى الوادي فاحتمل عاصما فذهب، وقد كان عاصم أعطى الله تعالى عهدا ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا في حياته، فمنعه الله تعالى بعد وفاته مما امتنع منه في حياته. وعن عمرو بن أمية الضمري: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه عينا وحده فقال: جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون فأطلقته، فوقع في الأرض، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا، ثم ألتفت فكأنما ابتلعته الأرض. وفي رواية أخرى زيادة: فلم نذكر لخبيب رمة حتى الساعة؛ ذكره البيهقي ولا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة يصون بها ماله وعياله، وحسبك بالصحابة وأموالهم مع ولايتهم وفضلهم، وهم الحجة على غيرهم. قلت: وهذا الحديث لا يناقضه قوله تعالى{لاتخذت عليه أجرا{ فيه دليل على صحة جواز الإجارة، وهى سنة الأنبياء والأولياء على ما يأتي بيانه في سورة {القصص{ إن شاء الله تعالى. وقرأ الجمهور {لاتخذت{ وأبو عمرو {لتخذت{ وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة، وهما لغتان بمعنى واحد من الأخذ، مثل قولك: تبع واتبع، وتقى واتقى وأدغم بعض القراء الذال في التاء، ولم يدغمها بعضهم {قال هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} قوله تعالى{قال هذا فراق بيني وبينك{ فعند ذلك قال له الخضر {هذا فراق بيني وبينك{ بحكم ما شرطت على نفسك. وتكريره {بيني وبينك{ وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد. قال سيبويه: كما يقال أخزى الله الكاذب مني ومنك؛ أي منا. وقال ابن عباس: وكان قول موسى في السفينة والغلام لله، وكان قوله في الجدار لنقسه لطلب شيء من الدنيا، فكان سبب الفراق. وقال وهب بن منبه: كان ذلك الجدار جدارا طوله في السماء مائة ذراع. قوله تعالى{سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا{ تأويل الشيء مآله أي قال له: إني أخبرك لم فعلت ما فعلت. وقيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر: إنها حجة على موسى وعجبا له وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم فلما أنكر أمر الغلام قيل له: أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه فلما أنكر إقامة الجدار نودي: أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر. {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا} قوله تعالى{أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر{ استدل بهذا من قال: إن المسكين أحسن حالا من الفقير، وقد مضى هذا المعنى مستوفى من سورة {براءة{. وقد وقيل: إنهم كانوا تجارا ولكن من حيث هم مسافرون عن قلة في لجة بحر، وبحال ضعف عن مدافعة خطب عبر عنهم بمساكين؛ إذ هم في حالة يشفق عليهم بسببها، وهذا كما تقول لرجل غني وقع في وهلة أو خطب: مسكين. وقال كعب وغيره: كانت لعشرة إخوة من المساكين ورثوها من أبيهم خمسة زمنى، وخمسة يعملون في البحر. وقيل: كانوا سبعة لكل واحد منهم زمانة ليست بالآخر. وقد ذكر النقاش أسماءهم؛ فأما العمال منهم فأحدهم كان مجذوما؛ والثاني أعور، والثالث أعرج، والرابع آدر، والخامس محموما لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم؛ والخمسة الذين لا يطيقون العمل: أعمى وأصم وأخرس ومقعد ومجنون، وكان البحر الذي يعملون فيه ما بين فارس والروم؛ ذكره الثعلبي. وقرأت فرقة{لمساكين{ بتشديد السين، واختلف في ذلك فقيل: هم ملاحو السفينة، وذلك أن المساك هو الذي يمسك رجل السفينة، وكل الخدمة تصلح لإمساكه فسمي الجميع مساكين. وقالت فرقة: أراد بالمساكين دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك والأظهر قراءة {مساكين{ بالتخفيف جمع مسكين، وأن معناها: إن السفينة لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم والله أعلم. قوله تعالى{فأردت أن أعيبها{ أي أجعلها ذات عيب، يقال: عبت الشيء فعاب إذا صار ذا عيب، فهو معيب وعائب. {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا{ قرأ ابن عباس وابن جبير (صحيحه) وقرأ أيضا ابن عباس وعثمان بن عفان (صالحة) و(وراء) أصلها بمعنى خلف؛ فقال بعض المفسرين: إنه كان خلفه وكان رجوعهم عليه. الأكثر على أن معنى (وراء) هنا أمام؛ يعضده قراءة ابن عباس وابن جبير {وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا{. قال ابن عطية{وراءهم{ هو عندي على بابه؛ وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مراعى بها الزمان وذلك أن الحدث المقدم الموجود هو الأمام، والذي يأتي بعده هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها: إن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمان غصب هذا الملك؛ ومن قرأ {أمامهم{ أراد في المكان، أي كأنهم يسيرون إلى بلد، قلت: وما اختاره هذا الإمام قد سبقه إليه في ذلك ابن عرفة؛ قال الهروي قال ابن عرفة: يقول القائل كيف قال {من ورائه{ وهي أمامه؟ فزعم أبو عبيد وأبو علي قُطرُب أن هذا من الأضداد، وأن وراء في معنى قدام، وهذا غير محصل؛ لأن أمام ضد وراء، وإنما يصلح هذا في الأوقات، كقولك للرجل إذا وعد وعدا في رجب لرمضان ثم قال: ومن ورائك شعبان لجاز وإن كان أمامه، لأنه يخلفه إلى وقت وعده؛ وأشار إلى هذا القول أيضا القشيري وقال: إنما يقال هذا في الأوقات، ولا يقال للرجل أمامك إنه وراءك؛ قال الفراء: وجوزه غيره؛ والقوم ما كانوا عالمين بخبر الملك، فأخبر الله تعالى الخضر حتى عيب السفينة؛ وذكره الزجاج. وقال الماوردي: يعني أمامي، [والثاني] أن وراء في موضع أمام في المواقيت والأزمان لأن الإنسان يجوزها فتصير وراءه ولا يجوز في غيرها الثالث: أنه يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرهما؛ وهذا قول علي بن عيسى. واختلف في اسم هذا الملك فقيل: هدد بن بدد. وقيل: الجلندي؛ وقال السهيلي. وذكر البخاري اسم الملك الآخذ لكل سفينة غصبا فقال: هو (هدد بن بدد والغلام المقتول) اسمه جيسور، وهكذا قيدناه في الجامع من رواية يزيد المروزي، وفي غير هذه الرواية حيسور بالحاء وعندي في حاشية الكتاب رواية ثالثة: وهي حيسون وكان يأخذ كل سفينة جيدة غصبا فلذلك عابها الخضر وخرقها؛ ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه، وقد تقدم. {وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا} قوله تعالى{وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين{ قوله تعالى{فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا{ قيل: هو من كلام الخضر عليه السلام، وهو الذي يشهد له سياق الكلام، وهو قول كثير من المفسرين؛ أي خفنا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، وكان الله قد أباح له الاجتهاد في قتل النفوس على هذه الجهة. وقيل: هو من كلام الله تعالى وعنه عبر الخضر؛ قال الطبري: معناه فعلمنا؛ وكذا قال ابن عباس أي فعلمنا، وهذا كما كني عن العلم بالخوف في قوله {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما} قوله تعالى{فأردنا أن يبدلهما ربهما{ قرأ الجمهور بفتح الباء وشد الدال، وقرأ عاصم بسكون الباء وتخفيف الدال؛ أي أن يرزقهما الله ولدا. يقال: بدل وأبدل مثل مهل وأمهل ونرل وأنزل. قوله تعالى{خيرا منه زكاة{ أي دينا وصلاحا. {وأقرب رحما{ قرأ ابن عباس {رحما{ بالضم، قال الشاعر: الباقون بسكونها؛ ومنه قول رؤبة بن العجاج: واختلف عن أبي عمرو، و{رحما{ معطوف على {زكاة{ أي رحمة؛ قال: رحمه رحمة ورحما؛ وألفه للتأنيث، ومذكره رحم. وقيل: الرُّحم هنا بمعنى الرَّحِم؛ قرأها ابن عباس {وأصل رحما{ أي رحما، وقرأ أيضا {أزكى منه{. وعن ابن جبير وابن جريج أنهما بُدلا جارية؛ قال الكلبي فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم. قتادة: ولدت أثنى عشر نبيا، وعن ابن جريج أيضا أن أم الغلام يوم قتل كانت حاملا بغلام مسلم وكان المقتول كافرا. وعن ابن عباس: فولدت جارية ولدت نبيا؛ وفي رواية: أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيا؛ وقاله جعفر بن محمد عن أبيه؛ قال علماؤنا: وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلا في بني إسرائيل، وهذه المرأة لم تكن فيهم؛ ويستفاد من هذه الآية تهوين المصائب بفقد الأولاد وإن كانوا قطعا من الأكباد، ومن سلم للقضاء أسفرت عاقبته عن اليد البيضاء. قال قتادة: لقد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما. فالواجب على كل امرئ الرضا بقضاء الله تعالى، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه له فيما يحب. {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} قوله تعالى{وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة{ هذان الغلامان صغيران بقرينة وصفهما باليتم، واسمهما أصرم وصريم. ودل قوله{في المدينة{ على أن القرية تسمى مدينة؛ قوله تعالى{وكان تحته كنز لهما{ اختلف الناس في الكنز؛ فقال عكرمة وقتادة: كان مالا جسيما وهو الظاهر من اسم الكنز إذ هو في اللغة المال المجموع؛ وقد مضى القول فيه. وقال ابن عباس:(كان علما في صحف مدفونة) عنه أيضا قوله تعالى{وكان أبوهما صالحا{ ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دِنْيَةً. وقيل: هو الأب السابع؛ قاله جعفر بن محمد. وقيل: العاشر فحفظا فيه وإن لم يذكر بصلاح؛ وكان يسمى كاشحا؛ قال مقاتل اسم أمهما دنيا؛ ذكره النقاش. ففيه ما يدل على أن الله تعالى يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا عنه وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته؛ وعلى هذا يدل قوله تعالى قوله تعالى{وما فعلته عن أمري{ يقتضي أن الخضر نبي؛ وقد تقدم الخلاف في ذلك. {ذلك تأويل{ أي تفسير. {ما لم تستطع عليه صبرا{ قرأت فرقة {تستطيع{ وقرأ الجمهور {تسطع{ قال أبو حاتم: كذا نقرأ كما في خط المصحف. وهنا خمس مسائل الأولى: إن قال قائل لم يسمع لفتى موسى ذكر في أول الآية ولا في آخرها، قيل له: اختلف في ذلك؛ فقال عكرمة لابن عباس: - لم يسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه؟ فقال(شرب الفتى من الماء فخلد، وأخذه العالم فطبق عليه سفينة ثم أرسله في البحر، وإنها لتموج به فيه إلى يوم القيامة وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب منه) قال القشيري: وهذا إن ثبت فليس الفتى يوشع بن نون؛ فإن يوشع بن نون قد عمر بعد موسى وكان خليفته؛ والأظهر أن موسى صرف فتاه لما لقي الخضر. وقال شيخنا الإمام أبو العباس: يحتمل أن يكون اكتفي بذكر المتبوع عن التابع والله أعلم. الثانية: إن قال قائل: كيف أضاف الخضر قصة استخراج كنز الغلامين لله تعالى، وقال في خرق السفينة{فأرادت أن أعيبها{ فأضاف العيب إلى نفسه؟ قيل له: إنما أسند الإرادة في الجدار إلى الله تعالى لأنها في أمر مستأنف في زمن طويل غيب من الغيوب، فحسن إفراد هذا الموضع بذكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد ذلك فالذي أعلمه الله تعالى أن يريده وقيل: لما كان ذلك خيرا كله أضافه إلى الله تعالى وأضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للأدب لأنها لفظة عيب فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله{وإذا مرضت فهو يشفين{ فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند إلى نفسه المرض، إذ هو معنى نقصى ومصيبة، فلا يضاف إليه سبحانه وتعالى من الألفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح، وهذا كما قال تعالى الثالثة: قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يزاد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر؛ فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون. قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع؛ فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين. خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه؛ اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك؛ كما قال تعالى الرابعة: ذهب الجمهور من الناس إلى أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم. وقالت فرقة: حي لأنه شرب من عين الحياة، وأنه باق في الأرض وأنه يحج البيت. قال ابن عطية: وقد أطنب النقاش في هذا المعنى، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب وغيره، وكلها لا تقوم على ساق. ولو كان الخضر عليه السلام حيا يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور؛ والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره ومما يقضي بموت الخضر عليه السلام الآن قلت: إلى هذا ذهب البخاري واختاره القاضي أبو بكر بن العربي، والصحيح القول الثاني وهو أنه حي على ما نذكره. قال السهيلي: واختلف في اسم الخضر اختلافا متباينا؛ فعن ابن منبه أنه قال: أبليا بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وقيل: هو ابن عاميل بن سماقحين بن أريا بن علقما بن عيصو بن إسحاق، وأن أباه كان ملكا، وأن أمه كانت بنت فارس واسمها ألمى، وأنها ولدته في مغارة، وأنه وجد هنالك وشاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية، فأخذه الرجل فرباه، فلما شب وطلب الملك - أبوه - كاتبا وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم وشيث، كان ممن أقدم عليه الكتاب ابنه الخضر وهو لا يعرفه، فلما استحسن خطه ومعرفته وبحث جلية أمره عرف أنه ابنه فضمه لنفسه وولاه أمر الناس ثم إن الخضر فر من الملك لأسباب يطول ذكرها إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها، فهو حي إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ويقطعه ثم يحييه الله تعالى. وقيل: لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا لا يصح وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث منهم شيخنا أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: إنه مات قبل انقضاء المائة، من قلت: قد ذكرنا هذا الحديث والكلام عليه، وبينا حياة الخضر إلى الآن، والله أعلم. الخامسة: قيل إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى: أوصني؛ قال: كن بساما ولا تكن ضحاكا، ودع اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران.
|